08 يناير 2015

الفساد الإداري ودوره في تفشي البطالة


مقدمة
 لم تعد البطالة مجرد مشكلة بل أصبحت أزمة تهدد تماسك واستقرار المجتمعات وتدفع بعجلة التنمية إلى الوراء لاسيّما في الدول النامية، ومشكل التشغيل لم يجد حلا مناسبا له نتيجة العديد من الأسباب التي وقعت عائقا في وجه ذلك والتي تعددت وأحدثت إختلالات كبيرة في مجال الشغل، من بينها الفساد الإداري الذي أدى بمختلف أشكاله وأنواعه إلى خلق نوع معين من أنواع البطالة.
المحور الأول: مفهوم الفساد الإداري
إنّ للفساد الإداري تعريفات عدة فقد عرفه البنك الدولي بأنه إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عندما يقوم موظف بقبول أو طلب، أو ابتزاز أو رشوة، لتسهيل عقد أو إجراء
طرح منافسة عامة كما يتم عندما يعرض وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمـال خاصـة تقديم رشوة للاستفادة من سياسات ، أو إجراءات عامة للتغلب عن المنافسين وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية، كما يمكن للفساد أن يحصل عن طريق استغلال الوظيفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة ، وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال الدولة1ويرى آخرون أنّ للفساد الاداري ثلاثة مداخل هي 2
المدخل التقليدي : الذي يقوم على أساس أن الفساد هو مشكلة انحراف الأفراد عن النظام القيمي السائد والمعتمد في المؤسسات الحكومية ما يدفع الأفراد إلى ممارسة سلوكيات منحرفة.
المدخل الوظيفي: الذي يقوم على أساس أن الفساد هو مشكلة الانحراف عن قواعد العمل الرسمية المعتمدة وليس النظام القيمي.
المدخل بعد الوظيفي : وفق هذا المدخل يمكن أن يأخذ الفساد طابعا تنظيميا فالتطور الكبير أخذ يظهر أن الفساد ظاهرة متعددة الأسباب والأبعاد،كما أن بلال أمين زين الدين قد عرف الفساد الإداري على أنه" كل ما يرتكبه الموظف العام إخلالاً بواجبات وظيفته العامة، سواء أكان باعتباره مواطن عادي أو باعتباره موظف عامل ، يمس الوظيفة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر طالما أنه يؤثر بالسلب على مقتضيات وظيفته وسواء أكان الفعل أو التصرف مقنناً في قانون العقوبات باعتباره جريمة جنائية نص على عقوبتها، أم كان إخلالاً يترتب عليه جزاء  تأديبي3
المحور الثاني: مفهوم الفساد الاداري والبطالة
فالفساد الإداري ورغم اختلاف الباحثين والمنظرين هو كل عمل مخالف للأخلاق والقانون، يرمي إلى الحصول على منفعة شخصية غير مشروعة، الأمر الذي يجعل منه منفذا لحصول بعض الأشخاص على مناصب عمل ليست من حقهم وحرمان آخرين يملكون الحق فيها، الأمر الذي يجعل هؤولاء يشعرون بالإحباط ويتأثرون نفسيا، لا سيما كلما تكرر ذلك ويفقد بعضهم الرغبة في العمل وهذا ما يسهم في وجود نوع من أنواع البطالة وهي البطالة الاختيارية.
كما أنه يسهم من جهة أخرى في جعل أناس يحتلون مناصب غير مناصبهم ولا تتناسب مع قدراتهم ولا مؤهلاتهم فلا يخدمون الوظيفة التي يحتلونها بأي شيء ولا يساهمون لا في التنمية ولا في تطور العمل الموكل إليهم، فيصبح شخصا يعمل وهو لا يعمل وهذا ما يسمى بالبطالة المقنعة.   




 المحور الثالث: أسباب الفساد الإداري:  يمكن ذكر أبرز أسباب الفساد الإداري فيما يلي:
1-الأسباب الاقتصادية : يعتقد (OECD) أن العوامل الاقتصادية هي احد العوامل الرئيسية المسببة للفساد الإداري ، ويحدث الفساد عادة عندما ينعدم الشعور بالرقابة والمحاسبة، وعندما يحتكر موظف المنظمة العامة توزيع المزايا لتتم الاستفادة منها لاعتبارات خاصة.ويمكن جمعها فيما يلي.4
-انخفاض مستوى دخل مرتكب جريمة الفساد بالمقارنة بمستوى التضخم أو الأسعار المحلية الأمر الذي يجعل الدخل الحقيقي له متدني لدرجة يعجز فيها عن إشباع احتياجات المعيشة الضرورية مما يلجأ إلى الرشوة أو الاختلاس أو الاتجار بالمخدرات وتزييف النقود للحصول على المال بطريقة غير مشروعة من مختلف الوسائل المتاحة للجريمة .
-تعتبر البطالة والفقر من أهم الأسباب الاقتصادية التي تدفع إلى الجنوح إلى الجريمة وإتيان أفعال الفساد
-ارتفاع درجة المنافسة الدولية بين الشركات العملاقة تؤدي إلى انتشار جريمة الجوسسة الاقتصادية خاصة في مجالات الصناعة .
2-الأسباب الاجتماعية: تساهم بعض النظم الاجتماعية المتوارثة في الدول النامية في وجود أبواب لحدوث الفساد خاصة في الجهاز الإداري للدولة ، حيث تنتشر عادات تقديم الهدايا الثمينة لكبار الموظفين للحصول على موافقتهم على أشياء غير قانونية ، كما أن اللواءات والانتماءات العائلية والقبلية يمكن أن تؤدي إلى انتشار الفساد ومخالفـة القواعد والقوانين واللوائح الحكوميـة فضلا عن التقاضي أو كف البصر عن كشف الفساد أو ملاحقته الأمر الذي يؤدي إلى استمرار حدوث الفساد وصعوبة مكافحته، ليصبح بمرور الوقت جزءاً من الثقافة المجتمعية في الدول الفقيرة خاصة تلك التي ترحب بالأموال غير المشروعة5.
3-الأسباب السياسية : يمكن رصد مجموعة من الأسباب ذات الطبيعة السياسية التي تؤدي على حدوث الفساد وتتمثل فيما يلي:6
-الاستبداد السياسي
-العلاقة الوثيقة بين النظم السياسية الداخلية والمصادر الدولية للفساد
-تزاوج السلطة السياسية مع الثروة وتشابك المصالح والمنافع بين رجال السياسة ورجال المال والأعمال
4-الأسباب الإدارية:  تتمثل الأسباب الإدارية فيما يلي:7
-ضعف الرقابة من خلال عدم قيام الأجهزة الرقابية بأدواتها المطلوبة .
- جهل المواطنين والعاملين في الأجهزة الإدارية- بروز علاقات اجتماعية قائمة داخل وخارج المنظمة
- انتشار اللامركزية دون إخضاع للرقابة المتبعة
- عدم وضوح التعليمات وصدورها دون وجود دليل يسهل تطبيقها تخلق الحيرة لدى الأفراد  مما يضطرهم إلى الاجتهاد الشخصي ومن ثم احتمال الانحراف وافتراق روح التعليمات.
- وجود هياكل تنظيمية قديمة أو غير ملائمة لطبيعة العمل وعدم توزيع الاختصاصات والمسؤوليات والصلاحيات بصورة عامة، وتضخيم الجهاز بالعاطلين، كلها تؤدي إلى عجز الجهاز الإداري من مواكبة حاجات الجمهور وانحرافه عن الهيكل التنظيمي،مما يضطر الجمهور بما يلاقيه من صعوبة في إرضاء دوافعه وإشباع رغباته للضغط على الأفراد ، وإغرائهم إلى إتباع سلوك بعيد عن قواعد العمل وأنظمته.


المحور الرابع: الفساد الاداري كسبب من أسباب البطالة
إن الفساد الإداري ظاهرة تنجم عن العديد من الأسباب لا سيما غياب الرقابة وعدم وجود قوانين صارمة تكافح الفساد، هناك أسباب أخرى ترجع إلى طبيعة الفرد في حد ذاته وتكون سببا في استغلال منصبه لأغراض غير مشروعة كغياب الضمير المهني وضعف الوازع الديني الأمر الذي يسهل من استغلال المناصب والسيطرة عليها بطرق غير مشروعة وإعطائها لغير أصحابها واحتكار الأقلية ويسمح ذلك بتفشي البطالة.
المحور الخامس:أنواع الفساد الاداري إن الفساد الاداري له أنواع عديدة يمكن تصنيفها إلى مايلي:
-الرشـوة: تعـد الرشـوة من أخطـر الجرائـم ومن أسوأ أنمـاط الفساد الإداري التي يجب محاربتها والقضـاء عليها لما تشكلـه من أخطـار وتهديدات على المجتمعات.8
-الاختلاس: وهو خيانة الموظف للأمانة المادية، النقدية أو العينية التي في عهدته، ويعرف الاختلاس كذلك بأنه " عبث الموظف بما أؤتمن عليه من مال عام بسبب سلطته الوظيفية ويطلق عليه أحيانا الغلول وهو خيانة الأمانة وأخذ الشيء في الخفاء وقد حرم الإسلام الغلول .9
-العمولات مقابل الصفقات : والعمولة هي مقدار من المال يمثل نسبة مئوية من قيمة عقـد أو صفقة تجارية يحصل عليها الموظف بالتوقيع عليها نيابة عن مؤسسته، ويكون الطرف الثاني مقاول أو مورد أو مصدر أو من يقع في حكمهم.10
-التهرب الضريبي
و الذي يأخذ شكلين، الشكل الأول يتمثل في استغلال المكلفين بالضريبة للتغيرات القانونية ولجوئهم للحيل التي تمكنهم من التخلص من الضرائب المستحقة دون أن يضعوا أنفسهم أمام المساءلة القانونية أما الشكل الثاني وهو التهرب الضريبي غير المشروع وهي الممارسات التي يخالف فيها الخاضعون للضرائب الأحكام القانونية بوسائل الغش والتزوير والرشاوى للهروب من الضرائب المستحقة11.
-التزوير والتزييف فيعرف بأنه كل اصطناع لعملة تقليداً لعملة صحيحة، وكل تلاعب في قيمة عملة صحيحة ، كذلك كل ترويج أو إدخال من الخارج لعملة مزيفة إذا تمت هذه الأمور بقصد وضع العملة المزيفة في التداول والغش والإضرار.12
-الابتزاز: وهو صورة أخرى من صور الفساد الإداري يمارسه بعض الموظفين وخاصة أولئك العاملين في الأجهزة السيادية أو الأمنية المسؤولة عن حماية ونشر الأمن والطمأنينة أو مراقبة النشاطات الاقتصادية أو غيرها من الأجهزة التحقيقية والتأديبية والعقابية كالسجون والمحاكم أومن قبل اللجان الانضباطية ونقاط التفتيش والسيطرة.13
-التحيز والمحاباة: وهو أسلوب يتم من خلال تموقع الفرد واحتلاله مكانة اجتماعية فيمنح الفرص الامتيازات للأقارب والأصدقاء على حساب الأشخاص ذوي الكفاءة والجدارة، كمحاباة المسؤولين القدامى مثلاً في قطاع الصحة لأجل أبنائهم لاقتناء واستيراد الأدوية لصالح المستشفيات14.
- الوساطات: تعرف الوساطات بأنها إدخال طرف ثالث له إمكانيات اجتماعية للتأثير في نتيجة العلاقات الاجتماعية بين طرفي علاقة اجتماعية في موقف معين، كما عرفت على أنها الشفاعة لدى مسؤولي أو ولي أمر لرفع مظلمة، أو التوصل إلى حق ، أوجلب منفعة تضر بالآخرين، وتعد الوساطة صورة من صور الفساد الإداري إذا كانت تهدف على عمل غير مشروع.15
-قبول الموظفين للهدايا والإكراميات من أرباب المصالح: وهناك تصرفات أخرى متعددة  قد يختلف البعض حول مدى خطورتها، إذ يدلل ظاهرها على البراءة وحسن النية لكنها تؤدي  في نتائجها إلى إفساد البعض دون سابق إصرار منهم أو ربما دون أن يشعروا بأنهم اقترفوا ذنباً.
-غسيل الأموال: غسل الأموال من أشهر ممارسات الفساد الدولي الشائعة في العديد من الأقطار وهناك العديد من الدراسات اهتمت بهذا الموضوع ، التي عرفت غسيل الأموال بأنه " التصرف في النقود بطريقة تخفي مصدرها وأصلها الحقيقي " كما يعرف بأنه " تمويه مصدر الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة لكي تبدو وكأنها أموال مشروعة16.
المحور السادس: أنواع الفساد الاداري والبطالة
إن أنواع الفساد الإداري تنتشر بنسب مختلفة، وتعتبر الرشوة والبيروقراطية أكثرها انتشار، كما أن معاملات التوظيف تتطلب الكثير من الشروط والتعقيدات والملفات الأمر الذي يصعب على الكثيرين تكملة ملفاتهم والالتحاق بمسابقات التوظيف ويتيح الفرصة في أغلب الأوقات لمن يلجؤون إلى طرق ملتوية كالرشوة و الوساطة لتسريع انجاز معاملاتهم و يبقى الآخرون ممن يملكون ذلك على حافة التوظيف فالإدارات تستغل الضغط الذي يعيشه المواطن لتعتمد نوع من أنواع الفساد لتوظفه فيجعل ذلك من الفساد سبيلا لتوظيف البعض.
كما أن بعض التصرفات التي تندرج ضمن الفساد تجعل المواطن يفقد الثقة في مصداقية عروض العمل فتقل نسبة تقدمهم له، و بما أن أغلبية الشباب البطال يفضل العمل في الوظيف العمومي لما له من امتيازات و تهربه من العمل في القطاع الخاص لما فيه من صعوبات، و عدم قدرته على العمل الحر فإن الأغلبية تبقى دون عمل بسب فقدان الثقة و تساهم بذلك في ارتفاع  نسبة البطالة.
وقد ركزنا على نوعين من أنواع الفساد و كيفية مساهمتها في تحقيق البطالة.
·       الرشوة و البطالة:
تؤدي الرشوة إلى وجود بطالة احتكاكية فالشخص الذي يعتمد الرشوة، يبحث دائما عن العمل الذي يزيد أجره، فإذا كان هذا النوع من الأشخاص يعمل في مكان يصعب عليه الحصول على الرشوة فهو يبحث عن عمل أفضل بالنسبة له، الأمر الذي يسهل في زيادة البطالة الاحتكاكية.

·       الاختلاس و البطالة:يعتبر الاختلاس أحد أنواع الفساد الإداري،كونه يعد خيانة الموظف للأمانة المادية النقدية أو العينة التي في عهدته فيؤدي الأمر إلى استغلال الأموال العامة في مجالات أخرى ليست في صالح العمل الأمر الذي يقلل من عرض العمل ويؤدي إلى وجود فائض في الأشخاص الراغبين و القادرين على العمل و لكنهم لا يجدون وظائف بسبب أن الأموال اختلست، و هذا في حقيقة الأمر تؤدي إلى ظهور نوع آخر من البطالة و هو البطالة الظافرة أو الظاهرة.

الخاتمة
يبقى الاهتمام الجدي بتحديد أسباب الفساد الاداري والأنواع المنتشرة منه وما ينتج عنها والسيطرة عليها أمرا ضروريا وحتميا للسيطرة على البطالة  والتخفيض منها لكنه يتطلب الاهتمام بأسباب أخرى مساعدة لذلك من أجل مواكبة عجلة التنمية.


الهوامش  
1- محمد قاسم القيروتي: الإصلاح الإداري بين النظرية والتطبيق، دار وائل للنشر والتوزيع ، عمان ،  الأردن،2001، ص 33.
2-نجم عبود نجم : أخلاقيات الإدارة في عالم متغير، منشورات المنظمة العربية للتنمية الإدارية، القاهرة، مصر ، 2006، ص-ص-ص 217،218،221.
3-بلال أمين زين الدين: ظاهرة الفساد الإداري في الدول العربية والتشريع المقارن، دار الفكر الجامعي ، الطبعة الأولى، الإسكندرية، مصر، 2009، ص 64.
4-عادل بن أحمد الشلفان : الفساد الإداري في المؤسسات العامة- المشكلة والحل-، المجلد 25 ،العددان الأول والثاني،يناير و يوليو2003، كلية التجارة، جامعة الزقازيق،ص335.
5-حمدي عبد العظيم : " عولمة الفساد وفساد العولمة"، الدار الجامعية ، الطبعة الأولى ،الإسكندرية، مصر، 2008، ص64.
6- حمدي عبد العظيم: المرجع السابق ، ص 57.
7-مهدي حسين زويلق: التنمية الإدارية والدول النامية ، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ،عمان، الأردن،1993، ص-ص 39،40.
8-مصطفى: معضلة الفساد في الجزائر،دراسة في الجذور والأسباب والحلول، منشورات جيتلي للنشر والتوزيع ، برج بوعريريج ، الجزائر ، ص 45
9-نجم عبود نجم :المرجع السابق ، ص 229.
10-خالد بن عبد الرحمن بن حسين بن عمر آل الشيخ: الفساد الإداري، أنماطه، أسبابه، وسبل مكافحته أطروحة مقدمة استكمالا لمتطلبات الحصول على درجة الدكتوراه فلسفة في العلوم الأمنية ، ص 38.
11-عامر الكبيسي :  الفساد الاداري والعولمة " تزامن لا توأمة"، المكتب الجامعي الحديث، الرياض، السعودية، 2005 المرجع السابق، ص 35.
12- خالد بن عبد الرحمن بن حسين بن عمر آل الشيخ: المرجع السابق، ص .42
13- خالد بن عبد الرحمن بن حسين بن عمر آل الشيخ: المرجع السابق، ص-ص 34،35.
14 -جمال الدين بن منظور : لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، 2000. ص .788
15-عادل عبد العزيز السن: الجوانب القانونية والاقتصادية لجرائم غسل الأموال ، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، الفساد الإداري والمالي في الوطن العربي ، الشارقة دولة الإمارات العربية المتحدة، فبراير 2007، منشورات المنظمة العربية للتنمية الإدارية ، القاهرة ، مصر ، 2008، ص 225.
16-مهدي حسين زويلف:التنمية الإدارية والدول النامية، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عمان الأردن، 1993.





03 مارس 2014

أثر الرشوة على العقد الإداري


دراسة مقارنة


دكتور
أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
الخبير القانوني لدى دائرة القضاء – أبو ظبي




m

الرشوة فعل مذموم أخلاقا، محرم دينيا، مجرم قانونا؛ فقد روي عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلى. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه. ألا هل بلغت ثلاثا». وإذا كان هذا الحديث النبوي الشريف ينصرف إلى فعل المرتشي، فان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في حديث آخر أن النهي عن سلوك سبيل الرشوة لا يقتصر على المرتشي وإنما يمتد ليشمل غيره من أطراف العلاقة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش». بل أن هذا الحديث قد قدم الراشي على المرتشي، لأن فعل الراشي قد يحدث نوعا من الإغراء للموظف فيحمله بالتالي على الارتشاء دون أن تكون لديه نية مسبقة. وهكذا تحرم الشريعة الإسلامية الرشوة، مؤكدة أن لعنة الله عز وجل تلحق بجميع أطرافها، سواء كان راشيا أو مرتشيا أو رائشا وهو الوسيط.

وفي القانون الوضعي، ينعقد إجماع التشريع المقارن على تجريم الرشوة في كل صورها، سواء أخذت شكل الطلب أو القبول([1])، وأيا كانت طبيعة مقابل الرشوة (ماديا أو معنويا)، وسواء كان طلب الموظف الرشوة لنفسه أو لغيره، وسواء كانت الرشوة لأداء عمل أو للامتناع عنه، ويستوي أخيرا أن يكون الموظف مختصا بالعمل أو غير مختص به([2]). وتجمع التشريعات الوضعية على أن العقاب لا يقتصر على الموظف المرتشي، وإنما يمتد ليشمل الراشي والوسيط([3]). بل أن المشرع الوضعي يعاقب الراشي الذي يعرض الرشوة دون أن يصادف عرضه قبولا من جانب الموظف العام([4]).

غير أن التساؤل يثور عن الحكم القانوني إذا كان الراشي قد نجح بالرشوة في إبرام عقد إداري مع إحدى الجهات الإدارية أو أحد الأشخاص المعنوية العامة، وما هو حكم العقد الإداري في هذه الحالة؟

وفي الإجابة على هذا التساؤل، تقرر بعض التشريعات المقارنة الفسخ الوجوبي للعقد (المطلب الأول)، بينما تكتفي تشريعات أخرى بتقرير حق الإدارة في فسخ العقد بحيث يكون الأمر جوازيا لجهة الإدارة (المطلب الثاني).


المطلب الأول
اتجاه التشريعات التي تقرر الفسخ الوجوبي للعقد

تقرر بعض التشريعات العربية الفسخ الوجوبي للعقد إذا ثبت أن المتعاقد قد حصل على العقد الإداري عن طريق الرشوة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة (24) من قانون المناقصات والمزايدات المصري – الصادر بالقانون رقم 89 لسنة 1998 – على أن «يفسخ العقد تلقائيا في الحالتين الآتيتين: 1- إذا ثبت أن المتعاقد قد شرع، بنفسه أو بواسطة غيره بطريق مباشر أو غير مباشر في رشوة أحد موظفي الجهات الخاضعة لأحكام هذا القانون، أو حصل على العقد عن طريق الرشوة. ب – إذا أفلس المتعاقد أو أعسر. ويشطب المتعاقد في الحالة المنصوص عليها في البند1 من سجل الموردين أو المقاولين وتخطر الهيئة العامة للخدمات الحكومية بذلك لنشر قرار الشطب بطريق النشرات المصلحية  ويتم بناء على طلب المتعاقد الذي شطب اسمه إعادة قيده في سجل الموردين أو المقاولين إذا انتفى سبب الشطب بصدور قرار من النيابة العامة بالأوجه لإقامة الدعوة الجنائية ضده أو بحفظها إداريا أو بصدور حكم نهائي ببراءته مما نسب إليه، على أن يعرض قرار إعادة القيد على الهيئة العامة للخدمات الحكومية لنشره بطريق النشرات المصلحية».

        وفي دولة قطر، تنص المادة (57) من قانون تنظيم المناقصات والمزايدات رقم 26 لسنة 2005 على أن «يعتبر العقد مفسوخا في الحالات التالية:1- إذا ثبت أن المتعاقد قد استعمل الغش أو التلاعب في تنفيذ العقد. 2- إذا ثبت أن المتعاقد شرع بنفسه أو بواسطة غيره بطريق مباشر أو غير مباشر في رشوة أحد موظفي الدولة أو التواطؤ معه إضرارا بالجهة الحكومية المتعاقد معها. 3- إذا أفلس المتعاقد أو أعسر».

المطلب الثاني
اتجاه التشريعات التي تقرر الفسخ الجوازي للعقد

تقتصر بعض التشريعات المقارنة على تقرير حق الإدارة في فسخ العقد، الأمر الذي يوحي بأن فسخ العقد كجزاء للرشوة هو أمر جوازي لجهة الإدارة بحيث يمكنها اللجوء إلى فسخ العقد كما يمكنها الاستمرار في تنفيذه، وذلك وفقا لما تراه محققا للمصلحة العامة في ضوء تقديرها لظروف كل حالة على حدة. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، تنص المادة (75/أ) من نظام عقود الإدارة – الصادر بموجب قرار وزير المالية والصناعة رقم (20) لسنة 2000م([5]) – على أن «يحق للوزارة في حالة الغش أو التلاعب أو الرشوة من قبل المقاول أو المورد فسخ العقد ومصادرة التأمين النهائي، وتنفيذ الأعمال أو توريد المواد على حساب المقاول أو المورد مع حفظ حقها في التعويض».

        وتنص المادة (24) من قانون المناقصات والمزايدات والمخازن الحكومية اليمني على أن «يحق للجهة المعنية فسخ العقد ومصادرة التأمين النهائي في الحالات الآتية: أ- الغش والتلاعب. ب – تقديم الرشوة. ج- التأخير عن التنفيذ في المواعيد المحددة. مع عدم الإخلال بحق الجهة المعنية في الرجوع على المتعاقد بالمطالبة بالتعويضات اللازمة وفي حالة ثبوت إفلاس المتعاقد أو إعساره قانونا يحاسب المتعاقد بقيمة ما أنجزه أو ورده كاملا ويستقطع من التأمين النهائي أي حق للجهة المعنية».

        وعلى هذا النحو، يبدو جليا إجماع التشريعات المقارنة على تقرير الفسخ كجزاء في حالة لجوء المتعاقد مع الإدارة إلى الرشوة في سبيل الحصول على العقد. وحتى على فرض عدم وجود مثل هذه النصوص، فإن القضاء والفقه مستقران على أنه إذا ثبت أن الإدارة قد أصدرت قرارها بناء على دفع رشوة من صاحب الحاجة، فان القرار الإداري يصبح قرارا مبنياً على غش ومشوباً بسوء استعمال السلطة، وبالتالي يكون هذا القرار باطلا لا ينتج أي أثر. بل أن بعض الفقه يؤكد أن مثل هذا القرار يعد منعدما، ومن ثم ولا يكون هناك أي داع قانوني لإبطاله، لأن العدم لا يولد إلا العدم.




([1]) تضيف بعض التشريعات إلى هاتين الصورتين (الطلب والقبول) صورة ثالثة وهي الأخذ. وتتحقق هذه الصورة الأخيرة إذا كان مقابل الرشوة ذا طبيعة مادية، وفيها يقوم المرتشي ببسط حيازته على الشيء. ومن التشريعات التي نصت على الأخذ كإحدى صور الركن المادي لجريمة الرشوة، نذكر قانون العقوبات المصري (المادة 103) وقانون العقوبات الليبي (المادة 226). غير أن غالبية التشريعات العربية لا تنص على الأخذ كصورة للركن المادي في جريمة الرشوة مكتفية بصورتي الطلب والقبول. ومن التشريعات التي تأخذ بهذا الاتجاه، نذكر قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (المادة 234) وقانون الجزاء الكويتي (المادة 114) وقانون عقوبات قطر (المادة 140). والواقع أن الاتجاه الثاني هو الأجدر بالتأييد، إذ يفترض الأخذ حتما «قبول» المرتشي عرض الراشي، الأمر الذي يعني توافر الصورة الثانية من صور الركن المادي للرشوة وهي القبول.  
([2]) راجع على سبيل المثال في التشريعات العربية: المادة 103 وما بعدها من قانون العقوبات المصري؛ المادة 234 وما بعدها من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة؛ المادة 140 وما بعدها من قانون عقوبات قطر لسنة 2004؛ المادة 114 وما بعدها من قانون الجزاء الكويتي الصادر عام 1960؛ المادة 226 وما بعدها من قانون العقوبات الليبي الصادر سنة 1953؛ الفصل 248 وما بعده من القانون الجنائي المغربي الصادر سنة 1962؛ المادة 155 وما بعدها من قانون الجزاء العماني الصادر سنة 1974. وينفرد المشرع السعودي بأنه قد أفرد قانونا مستقلا لجريمة الرشوة. أنظر في ذلك: نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م /36 بتاريخ 29/ 12/ 1412 هـ.
([3]) نصت التشريعات العربية صراحة على ذلك. راجع على سبيل المثال: المادة 107 مكرر من قانون العقوبات المصري؛ المادة 237 من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 141 من قانون عقوبات قطر؛ المادة 115 من قانون الجزاء الكويتي؛ المادة 226 الفقرة الثانية من قانون العقوبات الليبي؛ المادة 156 الفقرة الثانية من قانون الجزاء العماني؛ الفصل 251 من القانون الجنائي المغربي؛ المادة العاشرة من نظام مكافحة الرشوة السعودي.
([4]) راجع على سبيل المثال في التشريعات العربية: المادة 109 مكرر من قانون العقوبات المصري؛ المادة 237 الفقرة الأولى من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 145 من قانون عقوبات قطر؛ المادة 158 من قانون الجزاء العماني؛ المادة 229 من قانون العقوبات الليبي؛ المادة 117 من قانون الجزاء الكويتي؛ المادة التاسعة من نظام مكافحة الرشوة السعودي.
([5]) صدر هذا القرار في الثاني والعشرين من فبراير سنة 2000م، ونشر بالجريدة الرسمية في التاسع والعشرين من فبراير سنة 2000م، ودخل حيز التنفيذ اعتبارا من أول مارس سنة 2000م. راجع: الجريدة الرسمية لدولة الإمارات العربية المتحدة، س 30، العدد 345، فبراير 2000م، ص 82 وما بعدها.

18 يونيو 2013

أعمال السيادة في القضاء الإداري

أعمال السيادة في القضاء الإداري
______

        الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،
        فقد نصّت المادة (14) من نظام ديوان المظالم الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/78) وتاريخ 19/9/1428هـ على أنهه "لا يجوز لمحاكم ديوان المظالم النظر في الدعاوى المتعلّقة بأعمال السيادة...". وكان هذا المبدأ منصوصاً عليه في المادة التاسعة من نظام ديوان المظالم السابق.
        بمقتضى هذا المبدأ لا يجوز لجميع المحاكم الإدارية بمختلف درجاتها التابعة لديوان المظالم النظر في أي دعوى تستهدف الطعن في أي تصرّف أو قرار إداري يتعلّق بأعمال السيادة سواء كان الهدف من الطعن إلغاء أو وقف تنفيذ التصرّف أو القرار الإداري أو التعويض عن ما ترتّب عليه من أضرار.
        وغالب الفقهاء والشراح في حديثهم عن أعمال السيادة يتطرّقون له في ظل حكوماتهم الجمهورية وهي تختلف عن الحكومات الملكية لكنهم وضعوا أطر عامة وإن كانت ليست دقيقة لتميّز أعمال السيادة عن غيرها يُستفاد منها.

وقد اختلف الفقه والقضاء في تعريف أعمال السيادة:
        فعرفه بعض فقهاء القانون الإداري أعمال السيادة بأنها: الأعمال التي تصدر عن السلطة التنفيذية باعتبارها السلطة العليا في البلاد، أي حكومة تمثّل الدولة في مجال القانون العام الخارجي أو الداخلي، وليس باعتبارها جهة إدارة، وعرفت بأنها تلك الأعمال الصادرة من الدول بما تصدره الجهات العليا فيها والتي تدخل ضمن علاقاتها مع الدول الأخرى أو الهيئات أو الجمعيات أو المنظمات دولية كانت أو إقليمية وما يماثلها من أعمال أو قرارات الهدف منها الحفاظ على السلم والأمن الإجتماعي والصحة العامة، فحقيقتها أنها قرارات إدارية تصدر عن السلطة العليا وتتميّز بعدم خضوعها لرقابة القضاء سواء أكان بالإلغاء أو بالتعويض.
        وأوضح بعض فقهاء القضاء الإداري أن أعمال السيادة "تشمل كل ما يتعلّق بالصلات السياسية مع الدول الأجنبية وحالتي إعلان الحرب وإبرام السلم وضمّ أراضٍ إلى أملاك الدولة أو التنازل عنها والتحالف، وكل ما يتعلّق بتنظيم القوات البرية والبحرية والجوية وما إلى ذلك مما تتّفق طبيعته مع طبيعة هذه الأعمال.
        قضت محكمة القضاء الإداري المصري بتاريخ 21/4/1948 بأن أعمال السيادة هي الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتّخذها الحكومة بما لها من السلطة العليا للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل أو الخارج.
        وجاء ذكر أعمال السيادة في حكم محكمة القضاء الإداري المصري بتاريخ 26/2/1951م بأنها "الأعمال التي تصدر من الحكومة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة، فتباشرها بمقتضى هذه السلطة العليا لتنظيم علاقاتها بالسلطات العامة الأخرى داخلية كانت أو خارجية، أو تتّخذها إضطراراً للمحافظة على كيان الدولة في الداخل أو للذود عن سياستها في الخارج، ومن ثم يغلب فيها أن تكون تدابير تتّخذ في النطاق الداخلي أو في النطاق الخارجي، إما لتنظيم علاقات الحكومة بالسلطات العامة الداخلية أو الخارجية في حالتي الهدوء والسلام. وإما لدفع الأذى والشرّ عن الدولة في الداخل أو في الخارج في حالتيّ الإضطراب والحرب".
        وفي حكم صادر بتاريخ 2/5/1978 قالت محكمة القضاء المصري ما يلي: "ثمة معايير كثيرة يضعها الفقه والقضاء لتعريف أعمال السيادة التي يمتنع على محاكم مجلس الدولة النظر في الطلبات المتعلّقة بها، واستقرّت هذه المحاكم على أن أعمال السيادة هي تلك التي تصدر عن الحكومة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة فتباشرها بمقتضى هذه السلطة العليا لتنظيم علاقتها بالسلطات العامة الأخرى داخلية كانت أو خارجية أو تتّخذها إضطراراً للمحافظة على كيان الدولة في الداخل في الداخل أو الذود عنها في الخارج ومن ثم يغلب عليها أن تكون تدابير تتّخذ في النطاق الداخلي أو النطاق الخارجي إما لتنظيم علاقة الحكومة بالسلطات العامة الداخلية أو الخارجية في حالتي الهدوء والسلام وإما لدفع الأذى والشرّ عن الدولة عن الدولة في حالتي الإضطراب والحرب فهي تارة تكون أعمالاً منظّمة لعلاقة الحكومة بالمجلس النيابي أو منظمة للعلاقات السياسية بالدول الأجنبية، وهي طوراً تكون تدابير تتّخذ للدفاع عن الأمن العام من إضطراب داخلي أو لتأمين سلامة الدولة من عدو خارجي، وهذه وتلك أعمال وتدابير تصدر عن سلطان الحكم لا عن سلطة الإدارة، والضابط فيها معيار موضوعي يرجع إلى طبيعة الأعمال في ذاتها لا إلى ما يحيط بها من أمور عارضة".
        وجاء في أحكام ديوان المظالم (المحاكم الإدارية) في المملكة العربية السعودية النصّ على أن ما يصدره الملك من أوامر هي داخلة في أعمال السيادة، فقد جاء في الحكم رقم (20/د/إ/15 لعام 1431هـ) ما نصّه: و"بما أن المحاكم الإدارية استقرّت على أن الأوامر الملكية تعتبر من أعمال السيادة وفقاً للمادة (14) من نظام ديوان المظالم الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/78) وتاريخ 19/9/1428هـ، والتي نصّت على أنه: "لا يجوز لمحاكم ديوان المظالم النظر في الدعاوى المتعلّقة بأعمال السيادة..."، وبالتالي فإنها لا تختصّ بنظر الطعن فيها إلغاءً أو تعويضاً، وصدر في ذلك حكم محكمة الإستئناف رقم 403/إس/6 لعام 1429هـ، ورقم 422/إس/6 لعام 1429هـ، وعليه فإن الدائرة تحكم بعدم إختصاص المحاكم الإدارية ولائياً بنظر الدعوى".

تمييز أعمال السيادة عن غيرها:
        وفي سبيل تمييز أعمال السيادة عن غيرها فهناك ثلاثة معايير نصّ عليها فقهاء القضاء الإداري وأطنب فيها أستاذ القانون الإداري د. سليمان الطماوي، وهي كالتالي:
المطلب الأول: معيار الباعث السياسي:
        معيار الباعث السياسي هو المعيار الذي اعتمده مجلس الدولة الفرنسي للأخذ بنظرية أعمال السيادة ويعدّ حكم مجلس الدولة في قضية Le Fitte الصادر في 1/5/1822 حجر الأساس في إعتماد هذا المعيار.
        وبمقتضاه يعدّ العمل من أعمال السيادة إذا كان الباعث عليه سياسياً، أما إذا لم يكن الباعث سياسياً فإنه يعدّ من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء.
        وقد أخذ مجلس الدولة بهذا المعيار ليتلافى الإصطدام مع الإدارة لأنه معيار مرن يتيح للإدارة التخلّص من رقابة القضاء بمجرّد تذرّعها بأن الباعث على تصرّفها سياسي.

المطلب الثاني: معيار طبيعة العمل:
        نتيجة لما وجّه إلى معيار الباعث السياسي من نقد لجأ الفقه والقضاء إلى إعتماد طبيعة العمل ومفهومه لتمييز عمل السيادة عن أعمال الإدارة الأخرى، وفي سبيل ذلك ظهرت إتجاهات عدة منها ما ذكره الطماوي في كتابه إلى التمييز بين العمل الإداري والعمل الحكومي إذ عدّ العمل حكومياً إذا قصد به تحقيق مصلحة الجماعة السياسية كلها والسهر على إحترام دستورها، وسير هيئاته العامة والإشراف على علاقاتها مع الدول الأجنبية وعلى أمنها الداخلي، وهذا النوع من الأعمال يندرج في ضمن أعمال السيادة ويمتنع عن رقابة القضاء، أما النوع الآخر الذي يتعلّق بالتطبيق اليومي للقوانين والإشراف على علاقات الأفراد بالإدارة المركزية أو المحلية، وعلاقات الهيئات الإدارية، بعضها بالبعض الآخر فيندرج في ضمن أعمال الإدارة الإعتيادية التي تخضع لرقابة القضاء.
        وأياً كان الإتجاه فإن التمييز بين أعمال الحكومة وأعمال الإدارة العادية بقي غير معتدّ به ويفتقر إلى أساس قانوني واضح مما دفع بالفقه إلى البحث عن معيار آخر يقوم على أساس حصر أعمال السيادة وهو المعيار الشائع في الوقت الحاضر.

المطلب الثالث: معيار القائمة القضائية:
        إتّجه الفقهاء إلى إعتماد الإتجاه القضائي لتحديد ما يُعدّ من أعمال السيادة لعجزهم عن وضع معيار لتمييز أعمال السيادة بشكل واضح.
        ولعل أول من نادى بهذه الفكرة العميد "هوريو" الذي ذهب إلى أن "العمل الحكومي هو كل عمل يقرّر له القضاء الإداري وعلى رأسه محكمة التنازع هذه الصفة".

        وبناءً على ذلك فإن تحديد أعمال السيادة يعتمد ما يقرّره القضاء فهو يبيّن هذه الأعمال ويحدّد نطاقها، وقد أسهم مجلس الدولة الفرنسي ومحكمة التنازع في وضع قائمة لأعمال السيادة تتضمن مجموعة من الأعمال أهمها:
أولاً:    الأعمال المتعلّقة بعلاقة الحكومة بالبرلمان:
        وتشمل قرارات السلطة التنفيذية المتعلّقة بالعملية التشريعية كإقتراح مشروع قانون وإيداع هذا المشرّع أو سحبه، وكذلك القرارات الخاصة بانتخاب المجالس النيابية والمنازعات الناشئة عنها، قرارات رئيس الجمهورية المتعلّقة بالعلاقة بين السلطات الدستورية وممارسة الوظيفة التشريعية.

ثانياً:   الأعمال المتّصلة بالعلاقات الدولية والدبلوماسية:
        فقد عدّ مجلس الدولة من قبيل أعمال السيادة القرارات المتعلّقة بحماية ممتلكات الفرنسيين في الخارج، ورفض عرض النزاع على محكمة العدل الدولية، وكذلك الأعمال المتعلّقة بالمعاهدات والإتفاقيات الدولية.

ثالثاً:   الأعمال المتعلّقة بالحرب:
        ومن هذه الأعمال حقّ الدولة في الإستيلاء على السفن المحايدة الموجودة في المياه الإقليمية وقت الحرب، وكذلك الأوامر الصادرة بتغيير إتجاه السفن أو الحجز عليها أو على ما تحمله من بضائع.
        وعموماً فإن القاسم المشترك بين هذه الأعمال يتمثّل في تحصينها من رقابة القضاء إلغاءً وتعويضاً، وعلى ذلك فقد اعتبرها الفقه الإداري ثغرة في بناء المشروعية، وحول القضاء رأب هذا الصدع من خلال الإتجاه نحو تضييق نطاق أعمال السيادة وإخراج بعض الأعمال ذات الطبيعة الإدارية منها، كذلك اتّجه مجلس الدولة الفرنسي إلى التخفيف من أثر أعمال السيادة فقرّر إمكان التعويض عنها، وهذا له حظ من النظر.



الريبر
-      القضاء الإداري، سليمان الطماوي.
-      أحكام ديوان المظالم في المملكة العربية السعودية.
-      القرارات الإدارية في المملكة العربية السعودية، جابر سعيد.

-      مجموعة كتابات ومقالات مثل: نظرية أعمال السيادة والقضاء الإداري، خالد أحمد، وأعمال السيادة والقضاء الإداري، محمد السنيدي (جريدة الإقتصادية).