03 مارس 2014

أثر الرشوة على العقد الإداري


دراسة مقارنة


دكتور
أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
الخبير القانوني لدى دائرة القضاء – أبو ظبي




m

الرشوة فعل مذموم أخلاقا، محرم دينيا، مجرم قانونا؛ فقد روي عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلى. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتى إبطيه. ألا هل بلغت ثلاثا». وإذا كان هذا الحديث النبوي الشريف ينصرف إلى فعل المرتشي، فان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في حديث آخر أن النهي عن سلوك سبيل الرشوة لا يقتصر على المرتشي وإنما يمتد ليشمل غيره من أطراف العلاقة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش». بل أن هذا الحديث قد قدم الراشي على المرتشي، لأن فعل الراشي قد يحدث نوعا من الإغراء للموظف فيحمله بالتالي على الارتشاء دون أن تكون لديه نية مسبقة. وهكذا تحرم الشريعة الإسلامية الرشوة، مؤكدة أن لعنة الله عز وجل تلحق بجميع أطرافها، سواء كان راشيا أو مرتشيا أو رائشا وهو الوسيط.

وفي القانون الوضعي، ينعقد إجماع التشريع المقارن على تجريم الرشوة في كل صورها، سواء أخذت شكل الطلب أو القبول([1])، وأيا كانت طبيعة مقابل الرشوة (ماديا أو معنويا)، وسواء كان طلب الموظف الرشوة لنفسه أو لغيره، وسواء كانت الرشوة لأداء عمل أو للامتناع عنه، ويستوي أخيرا أن يكون الموظف مختصا بالعمل أو غير مختص به([2]). وتجمع التشريعات الوضعية على أن العقاب لا يقتصر على الموظف المرتشي، وإنما يمتد ليشمل الراشي والوسيط([3]). بل أن المشرع الوضعي يعاقب الراشي الذي يعرض الرشوة دون أن يصادف عرضه قبولا من جانب الموظف العام([4]).

غير أن التساؤل يثور عن الحكم القانوني إذا كان الراشي قد نجح بالرشوة في إبرام عقد إداري مع إحدى الجهات الإدارية أو أحد الأشخاص المعنوية العامة، وما هو حكم العقد الإداري في هذه الحالة؟

وفي الإجابة على هذا التساؤل، تقرر بعض التشريعات المقارنة الفسخ الوجوبي للعقد (المطلب الأول)، بينما تكتفي تشريعات أخرى بتقرير حق الإدارة في فسخ العقد بحيث يكون الأمر جوازيا لجهة الإدارة (المطلب الثاني).


المطلب الأول
اتجاه التشريعات التي تقرر الفسخ الوجوبي للعقد

تقرر بعض التشريعات العربية الفسخ الوجوبي للعقد إذا ثبت أن المتعاقد قد حصل على العقد الإداري عن طريق الرشوة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة (24) من قانون المناقصات والمزايدات المصري – الصادر بالقانون رقم 89 لسنة 1998 – على أن «يفسخ العقد تلقائيا في الحالتين الآتيتين: 1- إذا ثبت أن المتعاقد قد شرع، بنفسه أو بواسطة غيره بطريق مباشر أو غير مباشر في رشوة أحد موظفي الجهات الخاضعة لأحكام هذا القانون، أو حصل على العقد عن طريق الرشوة. ب – إذا أفلس المتعاقد أو أعسر. ويشطب المتعاقد في الحالة المنصوص عليها في البند1 من سجل الموردين أو المقاولين وتخطر الهيئة العامة للخدمات الحكومية بذلك لنشر قرار الشطب بطريق النشرات المصلحية  ويتم بناء على طلب المتعاقد الذي شطب اسمه إعادة قيده في سجل الموردين أو المقاولين إذا انتفى سبب الشطب بصدور قرار من النيابة العامة بالأوجه لإقامة الدعوة الجنائية ضده أو بحفظها إداريا أو بصدور حكم نهائي ببراءته مما نسب إليه، على أن يعرض قرار إعادة القيد على الهيئة العامة للخدمات الحكومية لنشره بطريق النشرات المصلحية».

        وفي دولة قطر، تنص المادة (57) من قانون تنظيم المناقصات والمزايدات رقم 26 لسنة 2005 على أن «يعتبر العقد مفسوخا في الحالات التالية:1- إذا ثبت أن المتعاقد قد استعمل الغش أو التلاعب في تنفيذ العقد. 2- إذا ثبت أن المتعاقد شرع بنفسه أو بواسطة غيره بطريق مباشر أو غير مباشر في رشوة أحد موظفي الدولة أو التواطؤ معه إضرارا بالجهة الحكومية المتعاقد معها. 3- إذا أفلس المتعاقد أو أعسر».

المطلب الثاني
اتجاه التشريعات التي تقرر الفسخ الجوازي للعقد

تقتصر بعض التشريعات المقارنة على تقرير حق الإدارة في فسخ العقد، الأمر الذي يوحي بأن فسخ العقد كجزاء للرشوة هو أمر جوازي لجهة الإدارة بحيث يمكنها اللجوء إلى فسخ العقد كما يمكنها الاستمرار في تنفيذه، وذلك وفقا لما تراه محققا للمصلحة العامة في ضوء تقديرها لظروف كل حالة على حدة. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، تنص المادة (75/أ) من نظام عقود الإدارة – الصادر بموجب قرار وزير المالية والصناعة رقم (20) لسنة 2000م([5]) – على أن «يحق للوزارة في حالة الغش أو التلاعب أو الرشوة من قبل المقاول أو المورد فسخ العقد ومصادرة التأمين النهائي، وتنفيذ الأعمال أو توريد المواد على حساب المقاول أو المورد مع حفظ حقها في التعويض».

        وتنص المادة (24) من قانون المناقصات والمزايدات والمخازن الحكومية اليمني على أن «يحق للجهة المعنية فسخ العقد ومصادرة التأمين النهائي في الحالات الآتية: أ- الغش والتلاعب. ب – تقديم الرشوة. ج- التأخير عن التنفيذ في المواعيد المحددة. مع عدم الإخلال بحق الجهة المعنية في الرجوع على المتعاقد بالمطالبة بالتعويضات اللازمة وفي حالة ثبوت إفلاس المتعاقد أو إعساره قانونا يحاسب المتعاقد بقيمة ما أنجزه أو ورده كاملا ويستقطع من التأمين النهائي أي حق للجهة المعنية».

        وعلى هذا النحو، يبدو جليا إجماع التشريعات المقارنة على تقرير الفسخ كجزاء في حالة لجوء المتعاقد مع الإدارة إلى الرشوة في سبيل الحصول على العقد. وحتى على فرض عدم وجود مثل هذه النصوص، فإن القضاء والفقه مستقران على أنه إذا ثبت أن الإدارة قد أصدرت قرارها بناء على دفع رشوة من صاحب الحاجة، فان القرار الإداري يصبح قرارا مبنياً على غش ومشوباً بسوء استعمال السلطة، وبالتالي يكون هذا القرار باطلا لا ينتج أي أثر. بل أن بعض الفقه يؤكد أن مثل هذا القرار يعد منعدما، ومن ثم ولا يكون هناك أي داع قانوني لإبطاله، لأن العدم لا يولد إلا العدم.




([1]) تضيف بعض التشريعات إلى هاتين الصورتين (الطلب والقبول) صورة ثالثة وهي الأخذ. وتتحقق هذه الصورة الأخيرة إذا كان مقابل الرشوة ذا طبيعة مادية، وفيها يقوم المرتشي ببسط حيازته على الشيء. ومن التشريعات التي نصت على الأخذ كإحدى صور الركن المادي لجريمة الرشوة، نذكر قانون العقوبات المصري (المادة 103) وقانون العقوبات الليبي (المادة 226). غير أن غالبية التشريعات العربية لا تنص على الأخذ كصورة للركن المادي في جريمة الرشوة مكتفية بصورتي الطلب والقبول. ومن التشريعات التي تأخذ بهذا الاتجاه، نذكر قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (المادة 234) وقانون الجزاء الكويتي (المادة 114) وقانون عقوبات قطر (المادة 140). والواقع أن الاتجاه الثاني هو الأجدر بالتأييد، إذ يفترض الأخذ حتما «قبول» المرتشي عرض الراشي، الأمر الذي يعني توافر الصورة الثانية من صور الركن المادي للرشوة وهي القبول.  
([2]) راجع على سبيل المثال في التشريعات العربية: المادة 103 وما بعدها من قانون العقوبات المصري؛ المادة 234 وما بعدها من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة؛ المادة 140 وما بعدها من قانون عقوبات قطر لسنة 2004؛ المادة 114 وما بعدها من قانون الجزاء الكويتي الصادر عام 1960؛ المادة 226 وما بعدها من قانون العقوبات الليبي الصادر سنة 1953؛ الفصل 248 وما بعده من القانون الجنائي المغربي الصادر سنة 1962؛ المادة 155 وما بعدها من قانون الجزاء العماني الصادر سنة 1974. وينفرد المشرع السعودي بأنه قد أفرد قانونا مستقلا لجريمة الرشوة. أنظر في ذلك: نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م /36 بتاريخ 29/ 12/ 1412 هـ.
([3]) نصت التشريعات العربية صراحة على ذلك. راجع على سبيل المثال: المادة 107 مكرر من قانون العقوبات المصري؛ المادة 237 من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 141 من قانون عقوبات قطر؛ المادة 115 من قانون الجزاء الكويتي؛ المادة 226 الفقرة الثانية من قانون العقوبات الليبي؛ المادة 156 الفقرة الثانية من قانون الجزاء العماني؛ الفصل 251 من القانون الجنائي المغربي؛ المادة العاشرة من نظام مكافحة الرشوة السعودي.
([4]) راجع على سبيل المثال في التشريعات العربية: المادة 109 مكرر من قانون العقوبات المصري؛ المادة 237 الفقرة الأولى من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ المادة 145 من قانون عقوبات قطر؛ المادة 158 من قانون الجزاء العماني؛ المادة 229 من قانون العقوبات الليبي؛ المادة 117 من قانون الجزاء الكويتي؛ المادة التاسعة من نظام مكافحة الرشوة السعودي.
([5]) صدر هذا القرار في الثاني والعشرين من فبراير سنة 2000م، ونشر بالجريدة الرسمية في التاسع والعشرين من فبراير سنة 2000م، ودخل حيز التنفيذ اعتبارا من أول مارس سنة 2000م. راجع: الجريدة الرسمية لدولة الإمارات العربية المتحدة، س 30، العدد 345، فبراير 2000م، ص 82 وما بعدها.